السَّفِينَة الَّتِي حفظت التَّارِيخ الْبَحْرِيّ

بقلم ابراهيم الخفاف

„السَّفِينَة هِي أَعْظَم مَا صَنَع الْإِنْسَان عَلَى وَجْه الأَرْض“
مَقُولَة جوْن روسكن هَذِه هِي أَوَّل مَا جَال بِخَاطِرِي لَحْظَة رُؤْيَتِي لهيكل سَفِينَة (الكوك) ، وَهْي سَفِينَة تِجَارِيَّة قَد تَمّ صنعهَا في الْقَرْن الرَّابِع عَشَر ، وَالَّتِي بَدَت لِي بِطَرِيقَة أَو باخرى ككائن عضوي تَمّ تَحنيطه وَمَنّ ثُمّ وَضعْه في وَسْط قَاعَة المتحف الْبَحْرِيّ الألماني
.

إفتتاح صالة سفينة (الكوك) في المتحف البحري الألماني (15.03.2017) بعدسة ولفهارد شيير

 فَضْلًا عَن ذَلِك ، أَيْقَظ الْمَشْهَد الْعَدِيد مَن الذكريات النَّائِمَة في مخيلتي ، وَالَّتِي تَعُود إِلَى قصَص اعْتَدَّت عَلَى سَمَاعِهَا في أيام الطُّفُولَة . وَعَلَى الرَّغْم من أن تَارِيخ سَفِينَة (الكوك) بَعِيد كَلّ الْبُعْد عَن ثقافتي ، وَمَع ذَلِك وَلِسَبَب قصَيّ عَن الْإِدْرَاك فَإِن الْمَشْهَد ذَكَرَنِي بِقِصَّة قَدِيمَة مُرتبطة بِبِلَاد مَا بَيْن النَّهْرَيْن . وَهْي – مَن دُوْن شَكّ – مَلْحَمَة جلجامش . فَفِي أَحَد فُصُولِهَا الْمُهِمَّة تُذكر فِيهَا اسطورة غَابِرَة عَن سَفِينَة عَظِيمَة ، صَنَعَهَا رَجُل اسْمُه (أوتونبشتم) ، أنقذت مُسْتَقْبَل الْبَشَرِيَّة قَاطِبَة . وكمكافئة عَلَى إنقاذه بُذُور الْجِنْس الْبَشَرِيّ ، فَان ذَلِك الرَّجُل قَد وُهِب الْخُلُود ، بالاضافة إِلَى مَكَانَة رَفِيعَة في السَّمَاء
.

بَعْدَهَا بَدَأ سَيْل الذكريات بالتوارد ، فَكُلّ ذِكْرَى مُرْتَبِطَة بذكرى أُخْرَى . وَعِنْد ذَلِك تَذَكَّرْت الْحِكَايَة الأُوْلَى الَّتِي سَمِعْتهَا في حَيَاتِي وَهْي الْقِصَّة الدِّينِيَّة الَّتِي تَتَحَدَّث عَن النَّبِيّ نُوح الَّذِي قَضِى سِنِين طِوَال في مَشْرُوع بِنَاء الْفُلْك الْعَظِيم مَن اُجْل إنْقَاذ الْجَمِيع مَن الدَّمَار الْقَادِم
.

اربع سفن مبنية وفق تصميم سفينة الكوك في احتفال ميناء هامبورك، بعدسة الدكتور كارل هاينز هوخهاوس

وَكلَّمَا أَطَلْت النَّظَر إِلَى سَفِينَة (الكوك) ، كلَّمَا ابتعدت أَكْثَر عَن الْوَاقِع . فَجْأَة بَدَأْت بِتَذَكُّر السندباد ورحلاته الْبَحْرِيَّة . وَلَكِن الْحَقِيقَة ان سَفِينَة السندباد ، وَمَع أَنَّهَا رُبَّمَا مَن وَحْي الْخَيَال ، كَانَت تَمْخَر عُبَاب الْمُحِيط الْهِنْدِيّ ، بَعِيدًا جِدًّا عَن الْمَكَان الَّذِي تَمّ الْعُثُور فِيْه عَلَى هيكل سَفِينَة (الكوك) ، في قَعْر نَهَر (فيساغ) في (بريمن) . وَقَد أعادني هَذَا الْإِدْرَاك إِلَى الْوَاقِع . وَعِنْدَمَا حَدَثَت صَدِيقِي لَاحِقًا عَن تَدَاعِي الافكار الَّذِي حَصَل مَعِي لَحْظَة مشاهدتي للـ(كَوّك) ، أَخْبَرَنِي أَنَّه بِرَغْم الْمَسَافَات الشَّاسِعَة الَّتِي تَفْصِل بَيْن مَكَان شخصياتي الْخَيَالِيَّة وَالْمَكَان الَّذِي وُجِدْت فِيْه السَّفِينَة ، فَهُنَالِك بَعْض الْبَاحِثِين يُؤْمِنُون بان (الكوك) رُبَّمَا قَد تَمّ صنعَهَا بِنَاء عَلَى تَصْمِيم السَّفِينَة الْعَرَبِيَّة الشَّهِيرَة (الداو) ، وَالَّتِي بِشَكْل مَن الْأَشْكَال قَد تَمّ اسْتَقَاء تصميمها مَن سُفُن بِلَاد الرَّافِدَيْن . عِنْدَهَا ، قُلْت لِنَفْسِي : “ لَو أَمْكَنَنِي ان ابْحَث في هَذَا الْمَوْضُوع وَان اُقْدُم أَدِلَّة عِلْمِيَّة لِإِثْبَات صِحَّته فانني بِذَلِك سأتمكن مَن تَحْوِيل افكاري الْخَيَالِيَّة إِلَى وَاقِع . “ لَو صَحّ ذَلِك فَانْه سيعني ان انطباعاتي الأُوْلَى حَوْل سَفِينَة (الكوك) لَم تَحْدُث بِمَحْض الصَّدَفَة . ولذلك قَرَّرْت الْقِيَام بِبَحْث عِلْمِي عَن احْتِمَالِيَّة ان تَكُون سَفِينَة (الكوك) قَد صُنعت استناداً عَلَى نَمُوذَج سَفِينَة (الداو) . وَعَلَى اية حَال ، دَعَوْنَا نَتْرُك هَذَا الْمَوْضِع لِمَقَالَة اكاديمية عِلْمِيَّة أُخْرَى في الْمُسْتَقْبَل وَلْنَتَكَلَّم عَن الاكتشاف الْمُثِير لهيكل السَّفِينَة
.

إكتشاف سفينة الكوك في بريمن عام 1962

تَمّ الْعُثُور عَلَى حُطَام السَّفِينَة في نَهَر (فيساغ) اثِّنَاء عَمَلِيَّات الْحَفْر في عَامّ ١٩٦٢م . ولقد كَان مَن الْمُسْتَحِيل اسْتِخْرَاج السَّفِينَة مَن قَعْر النَّهْر بشكلها الْكَامِل . ولذلك فَقَد تَمّ تفكيكها . وَمنّ أَجَل الْحفَّاظ عَلَى أَخْشَابهَا من الْجَفَاف والانكماش ، فَقَد تَمّ كَخُطْوَة اولى وَضَع قطْعهَا في أَحْوَاض مَائِيَّة وَمَنّ ثُمّ تلتها عَمَلِيَّة حَقْن الْأَخْشَاب بِمَادَّة حَافِظَة لِغَرَض إبْقَاءَهَا بِشَكْل سلَيْم . ولقد نجحت مُهِمَّة إعَادَة تَرْكِيب السَّفِينَة بَعْد بَذَل جهود حثيثة ومُضنية في إعَادَة أَجْزَاء الأحجية إِلَى مَكَانَهَا الْأَصْلِيّ ، إعتمادا عَلَى الصُّوَر الَّتِي قَد تَمّ الْتِقَاطِهَا في وقِّت سَابِق وَاعْتِمَادًا عَلَى أرقام الْأَخْشَاب
.

اسْتَغْرَقَت عَمَلِيَّة اسْتِخْرَاج حُطَام السَّفِينَة مَن اسفل النَّهْر ، بالاضافة إِلَى عَمَلِيَّة صِيَانَتُهَا وَمَنّ ثُمّ عَمَلِيَّة اعادة تَرْكِيبِهَا أَكْثَر مَن ثَلَاثِين عَامًّا ، وَهْي مُهِمَّة شَاقَّة قَد تَمَّت عَلَى يَد فَرِيق مُحْتَرِف . وَبعْد الْقِيَام بالعديد مَن الدراسات فِيْمَا يَتَعَلَّق بِشَكْل السَّفِينَة غَيَّر المكتمل ، افْتَرَض الْعُلَمَاء بَان السَّفِينَة وَقَبْل اكتمال بِنَاءَهَا قَد زُحزِحت عَن مَوْقِعَهَا الاصلي بِفِعْل فَيَضَان مِمَّا أَدَّى إِلَى غَرَقُهَا في 1380 . وَعَلَى كلّ حَال ، فَقَد تَمّ عَرَض السَّفِينَة لِلْعَامَّة في عَامّ 2000 في المتحف الْبَحْرِيّ الالماني وَاَلَّذِي تَمّ افْتِتَاحِه خِصِّيصًا لِهَذَا الْحَدَث الْمُهِمّ في عَامّ 1975 في مَدِينَة بريمرهافن
.

ختم عليه نقش سفينة الكوك

تبَيَّن بَعْض الأختام وَغَيْرهَا مَن الْوَثَائِق التَّارِيخِيَّة المكتشفة أن اُقْدم وُجُود لطراز سَفِينَة (الكوك) يَعُود إِلَى الْقَرْن الْعَاشِر . عَلَى أَيَّة حَال ، فَان اسْتِخْدَامِهَا قَد اصبح أَكْثَر انْتِشَارًا وَشُهْرَة خِلَال الْقَرْن الثَّانِي عَشَر . وَلَكِن هَذِه النَّظَرِيَّات قَد تَمّ افْتِرَاضِهَا قبل الْعُثُور عَلَى سَفِينَة (الكوك) في (بريمن) . واكتشاف (الكوك) قَد غَيَّر طَبِيعَة الْأَسْئِلَة ، اذ أَنَّهَا قَد تَسَبَّبَت بِجَلْب عَاصِفَة مَن عَلَامَات الِاسْتِفْهَام الْجَدِيدَة لِكُلّ مَن الأكاديميين وَالْعَامَّة . مَا زَال الْغُمُوض يلَفّ مُصْطَلَح (الكوك) فَلَيْس مَن السَّهْل مَعْرِفَة فِيْمَا إِذَا كَان هَذَا الْمُصْطَلَح قَد استُخدِم للاشارة إِلَى نَوْع مُعَيَّن مَن السُّفُن أَو إِلَى سُفُن الشَّحْن بِشَكْل عَامّ . وَمَنّ هُنَا يُمْكِن الْقَوْل بَان اكتشاف سَفِينَة (الكوك) قَد جَعَل مَن مُصْطَلَح „الكوك“ نَفْسَه أَكْثَر إلتباسا
.

إن مُجَرَّد التَّحْدِيق بِهَيْكَل السَّفِينَة الشَّامِخ وَسْط المتحف الْبَحْرِيّ ، حَيْث يُمْكِن لِلْمَرْء رُؤْيَة مِيَاه النَّهْر عَلَى الْجِهَة الاخرى ، لَهْو أَمْر أَكْثَر مَن سَاحِر . لا يُمْكِن لِلْمَرْء ان يُقَاوِم تَخَيَّل طاقم السَّفِينَة الْقَدِيمَة محاولا اعداد سَفِينَتُه مَن أَجَل الْقِيَام برحلة مَن نَهَر (بريمن) إِلَى وَجِهَة مَا ، اللَّه وَحَدَّه يَعْلَم إِلَى أَيْن ، رُبَّمَا إِلَى بِلَاد الرَّافِدَيْن ؟

سفينة كوك كامبن

 لابد أن غَرق السَّفِينَة قبل اسْتِهْلَال رحلتها قَد أَحْزَن طاقمها أَشَدّ الْحُزْن ، فَهُم لَم يُدْرِكُوا بَان هَذَا الْحَدَث نَفْسَه قَد كَان السَّبَب في الْحِفَّاظ عَلَى كَنْز لا يَقْدِر بِثَمَن في قَاع النَّهْر مَن أَجَل ان تكتشفه مَدِينَة (بريمن) بَعْد عِدَّة قُرُون . ولذلك ، وَبِعَكْس الْقَصَص السَّابِقَة وَ الَّتِي تَبَيَّن دُور السُّفُن في انقاذ الْبَشَر ، نَرَى هُنَا الأَمْر بِشَكْل مُعَاكِس
.

لا تَقْتَصِر رَوْعَة سَفِينَة (الكوك) عَلَى قدْرَتهَا السِّحْرِيَّة بِاسْتِدْعَاء الْعَوَاطِف الْوِجْدَانِيَّة أَو بِإِيقَاظ مَشَاعِر الْحَنِين إِلَى الْعُصُور الْوُسْطَى فَحَسْب ، اذ انها تَقَدُّم أَيْضًا دَلِيل عِلْمِي صَارِخ في وَجْه أُولَئِك الَّذِين يشككون في التَّأْكِيدَات الْمَوْجُودَة حَوْل مِثْل هَذَا النَّوْع مَن السُّفُن ، وَالَّتِي تَمْلِك بِالْفِعْل حُجَّة رَاسِخَة لِأَخْذ مَكَانَة مرموقة بَيْن أقدم سُفُن الْعُصُور الْوُسْطَى
.

وكما ذكرْت سَابِقًا ، لَقَد كَانَت سَفِينَة (الكوك) هِي السَّبَب الرئيسي في فَتْح المتحف الْبَحْرِيّ ، ولا يَزَال هُنَالِك الْكَثِير مِمَّا يَجِب قَوَّلَه فِيْمَا يَتَعَلَّق بِبَقِيَّة الْأشْيَاء الَّتِي يُمْكِن مُشَاهَدَتهَا في جَوَانِب المتحف الْمُخْتَلِفَة ، حَيْث أن اغلب هَذِه الْأَشْيَاء مُرْتَبِطَة بِسَفِينَة (الكوك) . لَقَد حَاوَل فَرِيق المتحف أن يَجْعَل كَلّ تَفْصِيلَة صَغِيرَة عَن السَّفِينَة مُتَوَفِّرًا لِلزَّائِر . فَقَد بدأوا مَن أَوَّل إشَاعَة اطلقها أَهْل (بريمن) عَامّ 1962 وَالَّتِي تَتَحَدَّث عَن وُجُود شيئ تَحْت الْمَاء ، وَغَيْرهَا مَن مِثْل هَذِه الاقاويل الَّتِي انْتَشَرَت بَيْن النَّاس حَتَّى قبل وقِّت اسْتِخْرَاج هيكل السَّفِينَة مَن قَاع النَّهْر . ولقد وَضَع الْخُبَرَاء الْعَدِيد مَن الْأَشْيَاء في أَنْحَاء أُخْرَى مَن المتحف ، وَصَوَّر ، وافلام ، وتسجيلات مَسْمُوعَة ، وشاشات يُمْكِن لَمَسَهَا ، وَمَوَادّ بِحريَّة قَابِلَة لِلشمّ ، وخرائط ، وَأَدَوَات ، وما إِلَى ذَلِك ، كُلْهَا مُتَعَلِّقَة بِسَفِينَة (الكوك) مَن جِهَة وبتاريخ مَدِينَة (بريمن) في ذَلِك الْحِين مَن جِهَة أُخْرَى ، وَيُمكَّن لِمِثْل هَذِه الاشياء ان تزَوَّد الزَّائِر بِشُعُور حِسِّيّ لِلْعَوْدَة بِالزَّمَن وبعيش تَجْرِبَة ان يَكُون في (بريمن) عَامّ ١٣٨٠ حَيْث بُنِيَت السَّفِينَة انذاك . بِإِمْكَان الزَّائِر ان يَشْعُر بِهَذِه الأجواء بِكُلّ سُهُولَة اثِّنَاء سَيْرِه في أَرْوِقَة المتحف ، اما إِذَا كَان الزَّائِر مِمَّن يسَرِّحُون بِالْخَيَال كَمَا هُو الْحَال مَعِي ، فَان الْمَشْهَد لَن يَأْخُذُه إِلَى (بريمن) عَامّ ١٣٨٠ فَحَسْب لَكِنَّه سيأخذه أَيْضًا إِلَى بِلَاد مَا بَيْن النَّهْرَيْن في الالفية الثَّالِثَة قبل المِيلَاد
.

 

 

ابراهيم الخفاف في زيارة لمدة شهرين الى المتحف البحري الألماني كجزء من دراسة الماجستير في تاريخ العلوم بجامعة السلطان محمد الفاتح في اسطنبول

abraham_salim84@yahoo.com

Schreibe einen Kommentar